تنحى معظم المحاولات السينمائية في السعودية إلى النقدية الإجتماعية ومساءلة مظاهر الفساد، وإن بشكل حذر فيه الكثير من الإحتراز. وذلك لأسباب موضوعية معروفة تتعلق بانعدام أفق الصناعة السينمائية. إذ لا يتوفر النص ولا التمويل ولا آليات وسوق التوزيع، ولذلك تقتصر اجتهادات محبي السينما على إنتاج أفلام قصيرة تقوم على الإرتجال ودغدغة حواس المتلقي بالقضايا الحساسة، تماماً كما يفعل كُتاب المقالات وأغلب الروائيين. الذين يراهنون على مخاطبة قارىء نسقي يتلذذ بسماع صوته الذي يردده الكاتب. ربما لأن اللحظة تحتم تلك الغرغرة الخطابية التي تفتح المشهد لمشتبهات فنية تنتصر للموضوع على حساب الصُنعة.
هذا الإنحياز للموضوعات وتسطيحها هو بالتحديد ما يعطل فكرة إنتاج فيلم سينمائي مقنع. أي حرمان الفرد والمجتمع من التعبير عن تاريخه الوجداني. وذلك نتيجة خضوع خطاب السينما التي يقودها الشباب إلى ضرورات النقد الإجتماعي، وإهمال الأبعاد الفنية. وهو الأمر الذي يجعل من منتجات اليوتيوب ذات قيمة أكبر، بالنظر إلى سهولة إنتاجها، وإمكانية انتشارها السريعة. فهي منتجات بلا نص ولا حرفية مقارنة بالإنتاج السينمائي.
إن عجز أي مجتمع عن سرد واقعه وطموحاته من خلال الصورة يعني ابتعاده عن أحلامه. كما يعني تخليه عن جوانب هامه وضرورية من أبعاده الإنسانية. على اعتبار أن السينما هي فن في المقام الأول، وليست مجرد أداة لنقد المجتمع ورفع الشعارات.فالثقافة الإجتماعية التي تطرحها السينما بقدر ما هي طريقة تفكير، هي شكل من أشكال التماس الجمالي مع الوجود. بمعنى أن السينما في السعودية قد صارت اليوم أمام سؤال ملح يتجاوز ضرورات النقد الإجتماعي إلى إنتاج منظومة من الأفلام الروائية التي تتحدث بلغة فنية صرفة.
ولا شك أن السينما تغذي الوظيفة الإجتماعية وترفدها وتتجادل باستمرار مع متطلباتها. فهي التي تستولد القضايا المشتركة وتطرحها للجدل داخل اللحظة، فتثير الإنفعالات والنقاشات التي تهيء بدورها لتبدُّلات بنيوية في الوعي والممارسة من خلال عرض الأنموذج المثالي. إلا أنها قد تخسر الكثير عندما تكتفي بهذا الدور. لأنها في هذه الحالة تتخلى ليس عن دورها وحسب، بل حتى عن مبررات وجودها، عندما تتماثل مع بقية الأدوات التعبيرية الإنسانية. على اعتبار أنها أكبر قوة اختراقية للوعي والذوق اخترعها الإنسان. بالنظر إلى كونها آلة لتوليد الأحلام.
السينما وسيلة لقول أشياء كثيرة أكثر مما تقوله الكلمات. فهي وسيلة تتعامل مع كل الحواس. واعتماد السينما الناشئة في السعودية على عدالة القضية المطروحة في المادة الفلمية، لا يعني أنها ابتعدت كثيراً عن المقالة أو الرواية. وهو خلل بنيوي كبير ينبغي تجاوزه بما تمنحه السينما من فضاءات أوسع وإمكانيات تعبيرية أكثر بلاغة. فالطاقة الخيالية لخطاب السينما هي التي تشكل وعي الإنسان الحديث. وهي ليست مجرد ناقل لما يدور على ألسنة الناس، بل هي المسؤولة عن التلويح بالحلم وترميم وجود الفرد داخل الجماعة عبر مقترح فني يخاطب الوعي والحواس في آن.
حتى هذه اللحظة لم تتجاوز المحاولات السينما حد إثارة القضايا المزمنة وتشكيل سجل إجتماعي مثقل بالسجالات. إذ لم يتم التوجُّه نحو النصوص القصصية والروائية. ولم تتعدد ضروب المعالجات الفنية. ولذلك يبدو خطاب السينما في السعودية بمعزل عن الجماليات. بل يخلو منها. حيث لا يقترح أي فيلم شكلاً أجمل للحياة بقدر ما يساجل الظواهر المريضة ويدعي أنه منذور لمعالجة اعوجاجها. فهو خطاب تقريعي يضع المجتمع تحت طائلة النقد باستمرار. بحجة تمثيل الشكل الواقعي للحياة، وترتيب أولويات الإنتاج السينمائي على هذا الأساس، وبالتالي، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى انزياحات فنية مقنعة.
إن الإستنقاع في هذه المحطة يعني أن خطاب السينما في السعودية يعاني من الغياب والعجز والمراوحة في نقطة لا يمكن التعامل معها كمرحلة فنية. بل هي معضلة داخلية يتحملها كل المعنيين بالإنتاج السينمائي، ولا علاقة للوعي الإجتماعي بها. إذ يُفترض أن تكون السينما ذات وظيفة سردية حلمية كبرى تتعامل بالقيمة الجمالية وترسم معالم الخطوط والمسارات الخارجية للوجود. وليست مجرد أداة مناقدة متخففة من أثرها السحري على وعي ومزاج الفرد والمجتمع. بمعنى أن المظهر السينمائي ما هو إلا تعبير عن الواقع الإنساني وتوقه لقيم الإبدال الثقافي. وهذا ما لا تقره هذه السينما ولا تقترح شيئاً منه.
يمكن تفهُّم كل العوائق الخارجية التي تعطل ظهور سينما حقيقية في السعودية، ولكن ما لا يمكن استيعابه أو تبريره هو تلك المراوحات داخل الخطاب نفسه. وعدم التقدم في الوجود الملموس للمجتمع الذي تتهمه هذه السينما بعدم تقبل فكرة وجودها. فهي لا ترسم المشهد القادم لإنسان هذه الأرض. ولا تؤسس لشاشة جاذبة ومقنعة، بقدر ما تلهج بنواقص الحياة ونواقضها. فهي بلا أسئلة جوهرية، ولا مقترحات جمالية. ولا حتى بعروض ترفيهية. إنها سينما أزمة. أزمتها هي وليس أزمة المجتمع الذي تدعي محاولة الترفيه عنه وتوعيته.
----
محمد العباس المصدر
Comentarios